لم يلق كتاب في تاريخ الإنسانية ما لقيه القرآن الكريم من عناية واهتمام. ولا غرو في ذلك، فهو كتاب رب العالمين، الخالد إلى يوم الدين، وهو إلى الناس أجمعين. إنه كتاب البشرية جمعاء على مر العصور والدهور، واختلاف الأماكن والبقاع.
وكان للمسلمين شرف الاهتمام بهذا الكتاب والعناية به، تلاوة وحفظاً، وشرحاً وتفسيراً، وتعلماً وتعليماً. وكان الاهتمام بالقراءات القرآنية جانباً من الجوانب التي شدت انتباه العلماء، ودفعت بعضهم للانقطاع وتلقي تلك القراءات وجمعها، وتعليمها وتدوينها، حتى نشأ ما أطلق عليه (علم القراءات).
وقد بحث العلماء تحت هذا العلم العديد من المسائل المتعلقة بالقراءات القرآنية، كعددها، وأنواعها، وأهميتها العلمية، ونحن في مقالنا التالي نحاول الوقوف على أهم الفوائد التي ذكرها العلماء لتعدد القراءات القرآنية.
فمن تلك الفوائد التخفيف على هذه الأمة والتيسير عليها، يدل على هذا الأمر تواتر قراءة القرآن إلينا بأكثر من وجه؛ وتلقي الأمة ذلك بالقبول سلفًا وخلفًا من غير نكير. وقد نبه إلى هذه الفائدة أئمة هذا الشأن من أمثال ابن قتيبة، و ابن الجزري، وغيرهما.
ومن فوائد ذلك إظهار نهاية البلاغة، وكمال الإعجاز، وغاية الاختصار، وجمال الإيجاز. وبيان ذلك أن كل قراءة بمنزلة الآية، وتنوع اللفظ بكلمة واحدة تقوم مقام عدة آيات، فلو كان كل لفظٍ آية لكان في ذلك تطويلاً وخروجاً عن سَنَن البلاغة العربية ونهجها.
ثم إن تعدد القراءات القرآنية كان من الأدلة التي اعتمدها العلماء في بيان صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وما جاء به، ووجه ذلك أنه على الرغم من تعدد القراءات وكثرتها، لم يتطرق إلى القرآن أي تضاد أو تناقض أو تخالف، بل كله يصدق بعضه بعضاً، ويؤيد أوله آخره، وآخره أوله، تصديقاً لقوله تعالى: {أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} (النساء: 82).
وقالوا أيضاً: إن تعدد القراءات فيه دلالة على إعجاز هذا الكتاب، وأنه من عند رب العالمين، وبيانه أن كل قراءة من القراءات تحمل وجهاً من وجوه الإعجاز ليس في غيرها، وبعبارة أخرى، إن القرآن معجز إذا قُرئ بهذه القراءة مثلاً، ومعجز كذلك إذا قُرئ بقراءة ثانية وثالثة وهكذا، ومن هنا تعددت معجزاته بتعدد قراءاته.
ومن فوائد تعدد القراءات - علاوة على ما تقدم - سهولة حفظ القرآن الكريم، وتيسير نقله على هذه الأمة جيلاً بعد جيل، يدل على هذا المعنى، أن حفظ كلمة منه بأكثر من قراءة، يكون أسهل في تعلمه وتعليمه، وأوفق لطبيعة لسان العرب، الذي نزل القرآن على وفق أساليب لغتهم، وتعدد لهجاتهم.
ومن ذلك أيضًا إعظام أجور هذه الأمة، من جهة أنهم يبذلون أقصى جهدهم في تتبع معاني ألفاظه، واستنباط حِكَمِهِ وأحكامه، فضلاً على ما في تلاوته - بقراءاته المختلفة - من مزيد الثواب وجزيل الفضل، تحقيقاً وتصديقاً لما أخبر به الصادق المصدوق، بقوله: (من قرأ حرفاً من كتاب الله فله حسنة) رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
وكان من فوائد تعدد القراءات، ظهور سر الله تعالى في توليه حفظ كتابه العزيز، وصيانة كلامه المنـ زَّل، بأوفى بيان وأوضح بلاغ، يرشد لهذا المعنى، أن الله سبحانه لم يُخلِ عصراً من العصور، من إمام حجة قائم على نقل كتابه وإيصاله إلى عباده، مع إتقان حروفه ورواياته، وبيان وجوهه وقراءاته، وفي ذلك تصديق لقوله تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} (الحجر: 9) .
وبعد: فهذه بعض فوائد تعدد القراءات القرآنية، عرضناها لك - أخي الكريم - بشيء من الإيجاز، لتعلم وتتبين أه
مية معرفة وجوه القراءات، وخاصة لطالب العلم الشرعي، نسأل الله أن يعلمنا ما ينفعنا، وينفعنا بما علمنا.
المصدر: موقع إسلام ويب